الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن ابن عباس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الله تعالى وقيل سها في صلاته فقالت اليهود: له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول: لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني، فإن قيل: ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن؟أجيب: بأن الظهار كان طلاقًا في الجاهلية فكانوا بتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها، تباعد منها جهة الظهار، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن.فإن قيل: ما معنى قولهم: أنت علي كظهر أمي، أجيب: بأنهم أرادوا أن يقولوا: أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج؛ لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر: يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره، ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرمًا عندهم محظورًا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله كظهر أمه، وهو منكر وزور وفيه كفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة.وقرأ ابن عامر والكوفيون اللائي بالهمزة المكسورة والياء بعدها في الوصل، وسهل الياء كالهمزة ورش، والبزي وأبو عمرو مع المد والقصر، وعن أبي عمرو والبزي أيضًا إبدالها ياء ساكنة مع المد لا غير، وقالون وقنبل بالهمزة ولا ياء بعدها، وقرأ تظهرون عاصم بضم التاء، وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مخففتين وألف بعد الظاء وفتح الهاء مخففة، وابن عامر كذلك إلا أنه يشدد الظاء، والباقون بفتح التاء والظاء والهاء مع تشديد الظاء والهاء ولا ألف بعد الظاء وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى كل ما ذكر وإلى الأخير {قولكم بأفواهكم} أي: مجرد قول لسان من غير حقيقة كالهذيان {والله} أي: المحيط علمًا وقدرة وله جميع صفات الكمال {يقول الحق} أي: ماله حقيقة الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه فلا قدرة لأحد على نقضه، فإن أخبر عن شيء فهو كما قال: {وهو} أي: وحده {يهدي السبيل} أي: يرشد إلى سبيل الحق.ولما كان كأنه قيل فما تقول اهدنا إلى سبيل الحق قال تعالى: {ادعوهم} أي: الأدعياء {لآبائهم} أي: الذين ولدوهم إن علموا ولذا قال زيد بن حارثة: قال صلى الله عليه وسلم: «من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» وأخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، ثم علل تعالى ذلك بقوله تعالى: {هو} أي: هذا الدعاء {أقسط} أي: أقرب إلى العدل من التبني، وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المُتَبَنَّى والإحسان إليه {عند الله} أي: الجامع لصفات الكمال، وعن ابن عمران زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم} الآية وقيل: كان الرجل في الجاهلة إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان، أما إذا جهلوا فهو ما ذكر بقوله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم} لجهل أصلي أو طارئ {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم {في الدين} إن كانوا دخلوا في دينكم أي: قولوا لهم إخواننا {ومواليكم} إن كانوا محررين أي: قولوا موالي فلان، وعن مقاتل إن لم تعلموا لهم أبًا فانسبوهم إخوانكم في الدين أي: أن تقول: عبد الله وعبد الرحمن وعبيد الله وأشباههم من الأسماء، وأن يدعى إلى اسم مولاه وقيل: مواليكم أولياؤكم في الدين.ولما كان عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ، وساقه على وجه يعمم ما بعد النهي أيضًا بقوله تعالى: {وليس عليكم جناح} أي: إثم وميل واعوجاج، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثمًا ولكن يعفي عنه فقال تعالى: {فيما أخطأتم به} أي: من الدعاء بالنبوة والمظاهرة، أو في شيء قبل النهي أو بعده ودل قوله تعالى: {ولكن ما} أي: الإثم فيما {تعمدت قلوبكم} على زوال الحرج أيضًا فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان، أو سبق اللسان، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمد بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينته المتعمد.تنبيه:يجوز في ما هذه وجهان:أحدهما: أن تكون مجرورة المحل عطف على ما المجرورة قبلها بفي. والتقدير: ولكن الجناح فيما تعمدت كما مرت الإشارة إليه.والثاني: أنها مرفوعة المحل بالابتداء، والخبر محذوف. وتقديره: تؤاخذون به أو عليكم فيه الجناح ونحوه، ولما كان هذا الكرم خاصًا بما تقدم عمم سبحانه وتعالى بقوله: {وكان الله} أزلًا وأبدًا {غفورًا} أي: من صفته الستر البليغ على المذنب التائب {رحيمًا} به، ولما نهى تعالى عن التبني وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وعمه كما مر علل تعالى النهي فيه بالخصوص بقوله تعالى: دالًا على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي: الذي ينبئه الله تعالى بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائمًا في مراقي الكمال ولا يزيد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلًا عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأي مؤمن ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه».وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينًا فإليّ، ومن ترك مالًا فهو لورثته» وعن أبي هريرة قال: كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل: هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم قال: هل ترك وفاء لدينه، فإن قالوا: نعم صلى عليه وإن قالوا: لا قال: صلوا على صاحبكم، وإنما لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم أولًا فيما إذا لم يترك وفاء لأن شفاعته صلى الله عليه وسلم لا ترد، وقد ورد إن نفس المؤمن محبوسة عن مقامها الكريم ما لم يوف دينه، وهو محمول على من قصر في وفائه في حال حياته، أما من لم يقصر لفقره مثلًا فلا، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج في باب الرهن.وإنما كان صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرد بهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل أعظم بهذا السبب الرباني فأي: حاجة إلى السبب الجسماني {وأزواجه أمهاتهم} أي: المؤمنين أي: مثلهن في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن إكرامًا له صلى الله عليه وسلم لافى حكم الخلوة والنظر والظهار والمسافرة والنفقة والميراث، وهو صلى الله عليه وسلم أب للرجال والنساء، وأما قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب: 40) فمعناه ليس أحد من رجالكم ولد صلبه وسيأتي ذلك ويحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى في محله.وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بغلام وهو يقرأ في المصحف {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم} فقال: يا غلام حكتها فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق، ومعنى ذلك: أن هذا كان يقرأ أولًا، ونسخ لما روي عن عكرمة أنه قال: كان في الحرف الأول {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهو أبوهم، وعن الحسن قال في القراءة الأولى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقوله تعالى: {وأولوا الأرحام} أي: القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} أي: في التوارث، ثم نسخ لما كان في صدر الإسلام فإنهم كانوا فيه يتوارثون بالحلف والنصر فيقول: ذمتي ذمتك ترثني وأرثك، ثم نسخ بالإسلام والهجرة، ثم نسخ بآية المواريث وبالآية التي في آخر الأنفال وأعادها تأكيدًا، فإن آية المواريث مقدمة ترتيبًا ونزولًا على آية الأنفال، وآية الأنفال على هذه كذلك وقوله تعالى: {في كتاب الله} يحتمل أن ذلك في اللوح المحفوظ أو فيما أنزل وهو هذه الآيات المذكورة أو فيما فرض الله.ولما بين أنهم أولى لسبب القرابة بين المفضل عليه بقوله تعالى: {من} أي: هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} أي: ومن المهاجرين المؤمنين من غير قرابة كذلك وقوله تعالى: {إلا أن تفعلوا} استثناء منقطع كما جرى عليه الجلال المحلي أي: لكن أن تفعلوا {إلى أوليائكم معروفًا} بوصية فجائز، ويجوز أن يكون استثناء من أعم العام كما قاله الزمخشري في معنى النفع والإحسان كما تقول: القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية، تريد أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية، والمراد بفعل المعروف التوصية لأنه لا وصية لوراث وعدّى تفعلوا بإلى؛ لأنه في معنى تسدوا. والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كان ذلك} أي: ما ذكر من آيتي {ادعوهم} {والنبي أولى} وقيل: أول ما نسخ من الآيات الإرث بالإيمان والهجرة ثابتًا {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ والقرآن {مسطورًا} قال الأصبهاني: وقيل في التوراة قال البقاعي: لأن في التوراة إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه، وميراثه لذوي قرابته، فالآية من الاحتباك، أثبت وصف الإيمان أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا ووصف الهجرة ثانيًا دليلًا على حذف النصرة أولًا.{وإذ} أي: واذكر حين {أخذنا} بعظمتنا {من النبيين ميثاقهم} أي: عهودهم في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم في المنشط والمكره وفي تصديق بعضهم لبعض وفي اتباعك فيما أخبرنا به في قولنا: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه}.وقولهم أقررنا.ولما ذكر ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه ذكر ما أخذ عليهم من العهد في التبليغ بقوله تعالى: {ومنك} أي: في قولنا في هذه السورة {اتق الله واتبع ما يوحى إليك}.وفي المائدة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل.ولما أتم المراد إجمالًا وعمومًا وخصه صلى الله عليه وسلم من ذلك العموم مبتدئًا به لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» بيانًا بتشريفه، ولأنه المقصود بالذات أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع ورتبهم على ترتيبهم في الزمان؛ لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم بالتأسية بالمتقدمين والمتأخرين قال: {ومن نوح} أول الرسل إلى المخالفين {وإبراهيم} أبي الأنبياء {وموسى} أول أصحاب الكتب من بني إسرائيل {وعيسى ابن مريم} ختام أنبياء بني إسرائيل، ونسبه إلى أمه مناداة على من ضل فيه بدعوى الألوهية وبالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة.تنبيه:ذكر هذه الخمسة من عطف الخاص على العام كما علم مما تقرر، وقوله تعالى: {وأخذنا} أي: بعظمتنا في ذلك {منهم ميثاقًا غليظًا} أي: شديدًا بالوفاء بما حملوه وهو الميثاق الأول، وإنما كرر لزيادة وصفه بالغلظ وهو استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه، وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله على الوفاء بما حملوه ثم أخذ الميثاق.{ليسأل} أي: الله تعالى يوم القيامة {الصادقين} أي: الأنبياء الذين صدقوا عهدهم {عن صدقهم} أي: عما قالوه لقومهم تبكيتًا للكافرين بهم، وقيل: ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم؛ لأن من قال للصادق: صدقت كان صادقًا في قوله، وقيل: ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم وقوله تعالى: {وأعد للكافرين عذابًا أليمًا} أي: مؤلمًا معطوف على أخذنا من النبيين؛ لأن المعنى: أن الله تعالى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا، ويجوز أن يعطف على ما دل عليه ليسأل الصادقين، كأنه قال: أثاب المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما كذبوا به رسلهم وأعد لهم عذابًا أليمًا.ثم حقق الله تعالى ما سبق لهم من الأمر بتقوى الله تعالى بحيث لا يبقى معه الخوف من أحد بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا} ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى: {نعمة الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له {عليكم} أي: لتشكروه عليها بالنفوذ، لأمره وعبر بالنعمة؛ لأنها المقصودة بالذات، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى: {إذ} أي: حين {جاءتكم جنود} أي: الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام {فأرسلنا} أي: تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا {عليهم ريحًا} وهي ريح الصبا قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب:انطلقي بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه {وجنودًا} أي: وأرسلنا جنودًا من الملائكة {لم تروها} وكانوا ألفًا ولم تقاتل يومئذ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحًا باردة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها على بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إليَّ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا: النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب {وكان الله} أي: الذي له جميع صفات الجلال والجمال {بما يعملون} أي: الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك {بصيرًا} أي: بالغ الإبصار والعلم.تنبيه:قال البخاري: قال موسى بن عقبة: كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرًا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهودة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} إلى قوله تعالى: {وكفى بجهنم سعيرًا}.فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حُرٌّ فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه، قال أنس رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال:
فقالوا مجيبين له: قال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبرَّ بطنه وهو يقول:«والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوت أبينا أبينا» فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش في عشرة آلاف من الأحابيش، وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة، وأقبلت غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل من هوازن، وانضافت لهم اليهود من قريظة والنضير حتى نزلوا إلى جانب أحد.وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، وكان بنو غطفان من أعلى الوادي من قبل المشرق، وقريش من أسفل الوادي من قبل المغرب كما قال تعالى: {إذ جاؤكم} وهو بدل من إذ جاءتكم {من فوقكم} أي: من أعلى الوادي {ومن أسفل منكم} أي: من أسفل الوادي {وإذ} أي: واذكر حين {زاغت الأبصار} أي: مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل لهم من الغفلة الحاصلة من الرعب، وقوله تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم كناية عن شدة الرعب والخفقان.
|